إمتحان الشهادة السودانية المتوسطة في العام 1960 بقلم عوض الحسن

عوض الحسن

كان موضوع الإنشاء في امتحان الشهادة المتوسطة عام 1960 بيت من قصيدة للشاعر المصري حافظ إبراهيم يقول:" لكل زمان آية وآية هذا الزمان الصحف". غير أن آية زماننا العجيب هذا لم تعد الصحف، بل ما ترمينا به الصحف كل صباح. وكنت قد طلّقت قراءة الصحف طلاقا بائنا حفاظا على ما تبقى من قواي العقلية، وعلى الأثاثات المنزلية والمكتبية من حولي. بيد أن "أولاد الحلال" يحذون حذو هذا النظام، ولا يتركونك وشأنك؛ يلقون صحفهم تحت أنفك فلا تملك إلا أن ترى العناوين العريضة فتستوقفك ( ولا أقول تُدهشك لأن الدهشة ماتت فينا)، فتبرطم بصوت مسموع:"أماضون هم في تنفيذ مخططهم بإرسالنا إلى مستشفى التجاني الماحي، أو إلى مقابر أحمد شرفي (وذلك أهون الشرين)؟"

حفل عدد الأحد هذا الأسبوع بباقة من الأخبار العجيبة التي تجعلك تتقبل نظرية المؤامرة المذكورة أعلاه. يقول أحد هذه الأخبار:" حذّر وزير المجلس الأعلى للإستثمار من إجراء أي إنتخابات جديدة لاختيار والي {للشمالية} خلفا للراحل فتحي خليل في هذا التوقيت، مُضيفا أن الخطوة ستعيد التصدعات والانقسامات"، ولم يذكر الوزير طبيعة هذه الانقسامات وإن كان المراقبون قد قالوا لي أنه يقصد المحاصصة على الطريقة اللبنانية بين المُشلخين "لا تِحت"، والمشلخين "لا وَرَا" و"البِدُون"! وقد ذكرت الصحيفة أن المسؤول المُمسك بالملف السياسي للولاية خشي أن تُعطل الانتخابات موسم الزراعة الشتوي (وذلك في ظنّي سبب وجيه، فأوراق الاقتراع لا تؤكل، بل يؤكل ما يُزرع شتاءِ مثل الورق والثلج والكوسا)، واقترح أن يُكمل نائب الوالي ما تبقى من فترة الوالي المُنتخب الراحل لأسباب كثيرة منها أن "الحيثيات كلها تدعم اتجاه" تكليفه بالمهمة. وقد ظننت، وبعض الظن إثم، أننا في دولة المؤسسات وحكم القانون، وأن منصب الوالي المُنتخب يُملأ (وفق قانون الانتخابات) بإجراء انتخابات خلال 60 يوما!

يقول خبر آخر في اليوم نفسه "أن وزير المالية أكّد أن الممارسات المالية التي يُمارسها العاملون بدائرة الأجانب التابعة للإدارة العامة للجوازات والهجرة مخالفة لقانون الإجراءات المالية والمحاسبيةُ...ودعا المواطنين إلى تقديم شكوى إلى ديوان الحسبة والمظالم حالة عدم تسلمهم للأرانيك المالية {أورنيك 15} من إدلرة الأجانب"!! أيّ والله، هذا ما نشرته الصحيفة، ونسيَت أن تقول أن الشكوى لغير الله مذلّة، وحسبنا الله ونِعم الوكيل. تجدر الإشارة إلى أن وزارة المالية هي الحارس للمال العام، وأنها تقع في شارع النيل جوار وزارة الداخلية المسؤولة عن إدارة الجوازات والهجرة (والأجاتب)، (ولن أشير إلى أن المواطنين الذين دعاهم السيد الوزير لتقديم الشكوى لديوان الحسبة والمظالم لا يغشون إدارة الأجانب، وكفاهم ما يلقونه في الإدارات الأخرى بما في ذلك إدارة السجل المدني والرقم الوطني!)

أما الخبر الأهم، والذي نُشر في صدر الصفحات الأولى لكل الصحف، فقد كان انعقاد المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية "في العلن"، واعتزامها "تصدير تجربتها" و"تفعيل مبدأ المحاسبة". وأوردت الصحف ما جاء في جلسة الإفتتاح حيث قال نائب رئبس الجمهورية أن الدولة تسعى لاعتماد الشريعة الإسلامية في كل مناحى الحياة... وأن تنقل تجربة السودان للإقليم وللعالم الإسلامي ولكل العالم"، و"ان السودان هو الدولة الوحيدة في العالم التي منعت التعامل الربوي في البنوك"، (رغم ما أفتى به علماء السودان!) بينما "كشف الأمين العام للحركة الإسلامية بولاية الخرطوم اعتماد مبدأ المحاسبة لكل منسوبي الحركة الإسلامية في الحركة والجهازين التنفيذي والتشريعي، مُنبها إلى أن دستور الحركة لا يُحاسبهم بمناصبهم إنما من باب الأخوة والتناصح" (وماذا عن دستور وقوانين البلاد؟)
ومن فرط علنية المؤتمر، نقل تلفزيون النيل الأزرق الجلسة الإفتتاحية على الهواء مباشرة ابتغاء الشفافية والعلنية، غير أن الإرسال انقطع لأسباب، لعلّها فنية، حين انتقد متحدث الجماعة السلفية التجربة الاسلامية في السودان. وقد سألني من توسّم فيّ المعرفة عن الصلة بين الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)، فاستنطقت اللوحة الخلفية في قاعة الاجتماع التي أظهرتها صور الصحف، وقرأت الآية الكريمة (ولتكن منكم أمّة يدعُون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكر واؤلئك هم المُفلحون)، وحسبت أن الحركة الإسلامية إذن لا صلة لها بالمؤتمر الوطني. غير أن من هو أعلم منّي أفتي لي أن الحركة الإسلامية بالنسبة للمؤتمر الوطني هي في مقام طائفة الأنصار بالنسبة لحزب الأمة، وطائفة الختمية بالنسبة للحزب الاتحادي الديموقراطي، ثم أردف "والله أعلم!" لأن الأمور، كما كان يُردد مارشال المديرية، “أصبحت غير مُدركة!”

ختامه مسك! في صحف أمس الاول الثلاثاء أوردت احدى الصحف خبر اعتذار والي الخرطوم للمواطن الذي "بهدلته" الشرطة هو وزوجته إذ اعتقلتهما بتهمة القيام بأعمال فاضحة. كتبت الصحيفة، دون أن يطرف لها جفن :"أوضح الوالي أنه تأكد لاحقا للشرطة أن المواطن تربطه علاقة شرعية بزوجته!" شئ عجيب! والأعجب أن الصحيفة لم تُخبرنا بالإجراء الذي أتخذ ضد الشاكي (الكيدي) ولا ضد رجال الشرطة الذين "بهدلوا" المواطن المسكين وزوجته!

يا خفيّ الألطاف نجّنا مما نخاف! أدرِكنا يا مُثبّت العقول والأفئدة!

و هكذا ولاة الأمر ~ فينا ~ باسم الإسلام السمح يمشون و يحكمون و تغيب عنهم الكثير من الأمور و يغيبون هم أنفسهم الكثير من الحقائق عن قصد و سوء نية و ذلك خدمة لأغراضهم المريضة ٠ و الله المستعان ٠

» صناعة الإنفصال في السودان ... بقلم: د. حيدر ابراهيم علي
» لوكنت .. سودانيا أو مصرياً .. بقلم: أسماء الحسيني (رايكم شنو)
» رضا جماهيري عن دور الدراما بالتوعية الانتخابية
» بعض الاكلات السودانية الشهيرة والشهية
» وظائف بشركة السكر السودانية